أزمة الأجور في بريطانيا.. إضراب تاريخي يعصف بالقطاع الصحي ويهدد المرضى
أزمة الأجور في بريطانيا.. إضراب تاريخي يعصف بالقطاع الصحي ويهدد المرضى
في تطور غير مسبوق منذ عقود، يستعد نحو 50 ألف طبيب مقيم في إنجلترا لتنفيذ إضراب شامل لمدة خمسة أيام بدءًا من 25 يوليو الجاري حتى 30 من الشهر ذاته، في خطوة وصفت بأنها الأطول والأوسع نطاقًا في تاريخ النقابات العمالية البريطانية.
وتأتي هذه الخطوة وسط أزمة حادة في الأجور وتدهور ملحوظ في الروح المعنوية للعاملين في القطاع الصحي، لتكشف مجددًا عن هشاشة النظام الصحي البريطاني أمام أزمات التمويل والضغوط السياسية.
وتعود جذور الأزمة الحالية إلى ما تصفه الجمعية الطبية البريطانية (BMA) بالتآكل المستمر في رواتب الأطباء المقيمين منذ عام 2008.
وبحسب بيانات الجمعية وتقارير رسمية، فقد فقد الأطباء المقيمون أكثر من 20% من قيمة رواتبهم الحقيقية خلال العقد الماضي بسبب التضخم وعدم مواكبة الزيادات السنوية لمعدلات ارتفاع الأسعار.
وتطالب النقابة اليوم بزيادة في الرواتب بنسبة 29% كتعويض جزئي عن هذه الخسائر، بينما ترى الحكومة أن هذه المطالب غير واقعية في ظل ضغوط الميزانية العامة، مقترحة تحسينات في ظروف العمل وفرص الترقية بدلاً من زيادات جوهرية في الأجور.
وبينما يؤكد الرؤساء المشاركون للجنة الأطباء المقيمين في BMA، الدكتورة ميليسا رايان والدكتور روس نيوودت، أن هذا نزاع على الأجور في جوهره، ترفض الحكومة ذلك وتصف الإضراب بأنه تصرف متهور يُظهر ازدراءً للمرضى، وفق تعبير وزير الصحة البريطاني ويس ستريتينج.
تداعيات على نظام NHS المتعثر
الإضراب المنتظر ليس مجرد حدث نقابي؛ بل يهدد بشكل مباشر استقرار الخدمة الصحية الوطنية NHS، التي تعد من أكبر وأهم المؤسسات الصحية المجانية في العالم، لكنها تواجه بالفعل ضغوطًا غير مسبوقة.
بحسب منظمة مقدمو الخدمات الصحية الوطنية، فإن NHS تكافح منذ شهور لتقليل قوائم الانتظار التي تجاوزت 7.6 مليون حالة بنهاية مايو الماضي، وهو أعلى رقم مسجل منذ بدء الإحصاءات قبل أكثر من عقدين، وقد يؤدي الإضراب إلى تأجيل آلاف العمليات الجراحية والمواعيد في أقسام مثل السرطان وزراعة الأعضاء والأمومة.
الجمعية البريطانية للمرضى عبّرت عن قلق عميق، مشيرة إلى أن المرضى يعيشون حالة من الغموض والقلق الشديد بشأن مستقبل رعايتهم، خصوصًا أولئك الذين ينتظرون علاجًا منذ شهور وربما سنوات.
أرقام تكشف حجم الأزمة
انخفاض القيمة الحقيقية لرواتب الأطباء المقيمين بأكثر من 20% منذ عام 2008.
أكثر من 7.6 مليون مريض على قوائم الانتظار في NHS (بحسب بيانات مايو 2025).
نحو 50 ألف طبيب مقيم مشارك محتمل في الإضراب.
معدل استقالات الأطباء المقيمين ارتفع بنسبة 9% بين عامي 2018 و2024، وفق تقرير هيئة الصحة العامة.
هذه الأرقام لا تُظهر فقط أزمة الرواتب؛ بل تكشف أزمة ثقة متفاقمة بين العاملين في القطاع الصحي والإدارة الحكومية.
ضغوط نفسية وهجرة العقول
أدى تآكل الأجور وظروف العمل القاسية إلى تراجع الروح المعنوية لدى الأطباء المقيمين، وهم العمود الفقري للرعاية اليومية في المستشفيات، تقرير صادر عن الكلية الملكية للأطباء في مطلع 2025 أشار إلى أن أكثر من نصف الأطباء المقيمين يفكرون في العمل بالخارج أو ترك المهنة بسبب الضغوط المالية والمهنية.
ورصدت منظمة العفو الدولية في تقريرها السنوي أن «أزمة الأجور في القطاع الصحي البريطاني تنعكس على جودة الرعاية الصحية، وتزيد من خطر الأخطاء الطبية وحالات الاحتراق الوظيفي بين الأطباء الشبان».
تأسست خدمة NHS عام 1948 كمشروع وطني يقدم رعاية صحية مجانية للجميع، وأصبحت رمزًا للمساواة الاجتماعية والفخر البريطاني، لكن منذ مطلع التسعينيات، بدأت تواجه تحديات تمويل مزمنة، مع تزايد أعداد السكان وتطور التكنولوجيا الطبية.
الأزمة الحالية ليست الأولى؛ فقد شهد عام 2016 إضرابًا كبيرًا للأطباء المقيمين حول عقود العمل. لكن الخبراء يرون أن الوضع اليوم أكثر تعقيدًا بسبب التضخم غير المسبوق بعد جائحة كورونا، والأزمات الاقتصادية عقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
الأزمة من منظور حقوقي
اعتبرت صحيفة "الغارديان" أن “الإضراب نتيجة لفشل حوار طويل الأمد"، محذّرة من ”تأثير خطير على المرضى".. بينما وصفت هيئة الإذاعة البريطانية BBC الوضع بأنه "اختبار صعب لمدى صمود NHS في مواجهة أزمات الأجور والهجرة".
أما منظمة "هيومن رايتس ووتش" فرأت في تقرير لها أن "تدهور أجور العاملين الصحيين يعكس مشكلة هيكلية في الالتزام بحق المواطنين في الصحة والرعاية الآمنة".
ويرى خبراء الصحة العامة أن الحل يحتاج إلى توازن صعب بين استدامة تمويل NHS وحماية حقوق العاملين فيها. يقترح البعض نموذج تمويل جديد يعتمد على زيادات ضريبية موجهة للرعاية الصحية أو استثمارات طويلة الأجل في البنية التحتية والموارد البشرية.
من جهة أخرى، تدعو النقابات إلى إنشاء هيئة مستقلة لإعادة تقييم الرواتب بشكل دوري، لضمان عدم تكرار تآكل الأجور مع التضخم.
أزمة إنسانية قبل أن تكون مالية
بين لغة الأرقام والمفاوضات السياسية، يبقى المرضى -وأغلبهم من الفئات الأكثر ضعفًا- هم من يدفعون الثمن الأكبر: تأجيل مواعيد ضرورية، قلق مستمر، وأحيانًا فقدان الأمل.
وكما كتب أحد الأطباء المقيمين في مقال رأي بصحيفة "الإندبندنت": "لسنا نطلب الرفاهية؛ بل راتبًا عادلًا يتيح لنا أن نعيش بكرامة ونواصل رعاية مرضانا".
هذه ليست مجرد أزمة رواتب، بل اختبار لقيم التضامن الإنساني التي تأسست عليها NHS قبل أكثر من 75 عامًا: هل ستبقى خدمةً وطنيةً، أم تتحول إلى نظام مثقل بالأزمات لا يجد من يدافع عنه؟